ضيف على الرصيف، ولا من مُضيف! (قصة قصيرة)
علومي :: القسم الأدبي :: اشعار ونثريات
Page 1 of 1
ضيف على الرصيف، ولا من مُضيف! (قصة قصيرة)
ضيف على الرصيف، ولا من مُضيف! (قصة قصيرة)
كعادتي كلَّ خميس، عدتُ من السوق
الأسبوعي بعدما قضيت مآربي، فكَّرت أن أغيِّر طريقي صوب مركز المدينة،
واختصرت المسير، وكأني فعلتُ ذلك بدافع لا أعرف سبَبَه الرئيس!
وبينما أنا أسير أحسست أني ما زلت أسيرًا لأصوات الباعة، شاردَ الفكر، مشتَّتَ الذهن، أخبط بخطاي خبط عشواء.
وما هي إلا لحظات، حتى وجدت
نفسي في منتصف الطريق، وأمام منظر - على الرصيف - يبعث على الحزن العميق؛
جثة هامدة، ولا حراك، تتوسد دراجة عادية، وكأن يدًا خفية وضعتها بحنو على
هذه الهيئة، فارقَتِ القبعة البيضاء رأسَه الحليق، وقد استسلمتْ هي الأخرى
للنوم العميق، إنه شاب وسيم، ذو لحية خفيفة، وقميص رمادي، فارق نعلاه
رجلَيْه.
والمشهد في نهاية المطاف يوحي أن الشاب سقط من دراجته لسبب من الأسباب؛
لسرعة صرعته، أو لمصيبة فاجعته، فآل أمره إلى ما ترى، قد يكون المشهد
مألوفًا؛ نظرًا لكثرة حوادث السير في بلداننا، ولكن الذي استوقفني
متأملاً، ومستغربًا، ومتسائلاً: لماذا لم يقترب منه أحد؛ ليمدَّ له يدَ
المساعدة، ولإنقاذ حياته، إن قُدِّر له أن يعيش؟
لما أمعنتُ النظر، وضعت الإصبع على سبب الخطر؛ إنه شاب ملتزم، يُهاب حيًّا
وميتًا، للصورة القاتمة التي صنَعَها الإعلام الغربي، وإعلامنا العربي
الإسلامي للأسف، يُهاب أن يكون قنبلةً موقوتة تخرب العمران، وتُودِي بحياة
الإنسان؛ لذلك لم يستطع أن يدنوَ منه دانٍ، أو أن يتحسسه إنسانٌ.
حرَّك المنظرُ الرهيب دواخلي، وتحرَّكتْ عواطفي، فانحنيت في ثبات أناديه: أخي، قم، أخي، ما بك؟!
لمست يده المتدلية، فإذا هي أبرد من الثلج، أزلتُ ما علِق بها من تراب،
وعاودت الكرَّة، ولا حركة، وما هي إلا دقائق معدودة، حتى اقترب الناس مني
بخطوة إلى الأمام، وخطوتين إلى الخلف، وفجأة اقتحم شاب مُلتحٍ الصفوفَ
يحمل كوب ماء، فشرع يرشه بالماء على أطرافه، وهو يقول - مخبرًا عن حقيقة
الحادث -: مسكين، عَلِم بوفاة أخته، فأغمي عليه!
ما يزال في غيبوبته، رفعت رأسي أقرأ وجوه الجموع، فإذا بشاحنة استوقفها
الحادث، تَحمل أهلَ بادية مجاورة، ونزل الناس مِن على متنها، فتعالت
صيحاتهم ناصحين - وقد امتلأت قلوبُهم شفقة ورِقَّة -: "احملوا الرجل إلى
الداخل".
هؤلاء بقُوا على طينتهم صالحين، لم يُغيِّر فيهم الإعلامُ الفاسد خصالَ
الخير، تعوَّدوا أن بيوتهم في البادية بيتُ كرم وإِحسان، على عكس الفِرقة
التي صنعتْها الحضارة والمدنيَّة المزيفة في المدن.
وثَبْنا مجتمعين لحمل الشاب إلى منزل بالجوار، حتى وضعناه على سرير في
إحدى الغرف، فبحثنا عن طِيبٍ ليشمَّه، فشرعت أتلو على مسمعه ما تيسَّر من
القرآن، إلى أن أفاق المسكين بالأنين على وجع الموت، عانقني عناقًا
حارًّا، دمعَتْ له عيناي، واختنقت به أنفاسي، بادرتُه بكلمات أعزِّيه: "إن
لله - تعالى - ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر،
ولتحتسب، إنا لله وإنا إليه راجعون".
بكى بكاءً شديدًا، لا تسخُّطَ فيه، وما هي إلا الدموعُ التي يغلي بها
قِدْرُ الفؤادِ المتصدِّعِ من موت أخته، والمنفطرِ من ألَمِ الفراق، هدأ
روعه وبكاؤه، فاستودعتُه اللهَ وانصرفت إلى حال سبيلي، أردِّد قول الشاعر:
انصرفتُ والدموعُ تنهمر على خدِّي؛ حسرةً وألمًا على ما وصلتْ إليه وضعيةُ
الملتزم الملتحي في مجتمعاتنا، والنظرة السيئة التي يتوجَّه بها الناس
إليه؛ يتصيَّدون عَثَراتِه، ويتتبَّعون عَوْراتِه، ويجمعون سقطاتِه،
ينظرون إليه وكأنه نبي مرسَل، أو مَلَك منزل.
فلا غرابة أن تجد بعض الملتزمين يخصُّونك بالسلام من دون المارة - برغم
كونهم مسلمين - ولا أرى لها من تأويل، إلا الغربة التي يعاني منها
المسكين، وكأنك - أخي القارئ - تسمع كلامًا يقول لك: "أيها الملتزم، لن
تصبح مواطنًا صالحًا، حتى يترضى عليك الإعلامُ الفاجر، و يلقى منظرُك
القَبولَ لديهم".
هذه حالة واحدة من حالات كثيرة لا يحصيها العدُّ، يعيش فيها الملتزم غربةً بين أهله وذويه؛ فأين المفرُّ، وممن المهرب؟!
.
كعادتي كلَّ خميس، عدتُ من السوق
الأسبوعي بعدما قضيت مآربي، فكَّرت أن أغيِّر طريقي صوب مركز المدينة،
واختصرت المسير، وكأني فعلتُ ذلك بدافع لا أعرف سبَبَه الرئيس!
وبينما أنا أسير أحسست أني ما زلت أسيرًا لأصوات الباعة، شاردَ الفكر، مشتَّتَ الذهن، أخبط بخطاي خبط عشواء.
وما هي إلا لحظات، حتى وجدت
نفسي في منتصف الطريق، وأمام منظر - على الرصيف - يبعث على الحزن العميق؛
جثة هامدة، ولا حراك، تتوسد دراجة عادية، وكأن يدًا خفية وضعتها بحنو على
هذه الهيئة، فارقَتِ القبعة البيضاء رأسَه الحليق، وقد استسلمتْ هي الأخرى
للنوم العميق، إنه شاب وسيم، ذو لحية خفيفة، وقميص رمادي، فارق نعلاه
رجلَيْه.
والمشهد في نهاية المطاف يوحي أن الشاب سقط من دراجته لسبب من الأسباب؛
لسرعة صرعته، أو لمصيبة فاجعته، فآل أمره إلى ما ترى، قد يكون المشهد
مألوفًا؛ نظرًا لكثرة حوادث السير في بلداننا، ولكن الذي استوقفني
متأملاً، ومستغربًا، ومتسائلاً: لماذا لم يقترب منه أحد؛ ليمدَّ له يدَ
المساعدة، ولإنقاذ حياته، إن قُدِّر له أن يعيش؟
لما أمعنتُ النظر، وضعت الإصبع على سبب الخطر؛ إنه شاب ملتزم، يُهاب حيًّا
وميتًا، للصورة القاتمة التي صنَعَها الإعلام الغربي، وإعلامنا العربي
الإسلامي للأسف، يُهاب أن يكون قنبلةً موقوتة تخرب العمران، وتُودِي بحياة
الإنسان؛ لذلك لم يستطع أن يدنوَ منه دانٍ، أو أن يتحسسه إنسانٌ.
حرَّك المنظرُ الرهيب دواخلي، وتحرَّكتْ عواطفي، فانحنيت في ثبات أناديه: أخي، قم، أخي، ما بك؟!
لمست يده المتدلية، فإذا هي أبرد من الثلج، أزلتُ ما علِق بها من تراب،
وعاودت الكرَّة، ولا حركة، وما هي إلا دقائق معدودة، حتى اقترب الناس مني
بخطوة إلى الأمام، وخطوتين إلى الخلف، وفجأة اقتحم شاب مُلتحٍ الصفوفَ
يحمل كوب ماء، فشرع يرشه بالماء على أطرافه، وهو يقول - مخبرًا عن حقيقة
الحادث -: مسكين، عَلِم بوفاة أخته، فأغمي عليه!
ما يزال في غيبوبته، رفعت رأسي أقرأ وجوه الجموع، فإذا بشاحنة استوقفها
الحادث، تَحمل أهلَ بادية مجاورة، ونزل الناس مِن على متنها، فتعالت
صيحاتهم ناصحين - وقد امتلأت قلوبُهم شفقة ورِقَّة -: "احملوا الرجل إلى
الداخل".
هؤلاء بقُوا على طينتهم صالحين، لم يُغيِّر فيهم الإعلامُ الفاسد خصالَ
الخير، تعوَّدوا أن بيوتهم في البادية بيتُ كرم وإِحسان، على عكس الفِرقة
التي صنعتْها الحضارة والمدنيَّة المزيفة في المدن.
وثَبْنا مجتمعين لحمل الشاب إلى منزل بالجوار، حتى وضعناه على سرير في
إحدى الغرف، فبحثنا عن طِيبٍ ليشمَّه، فشرعت أتلو على مسمعه ما تيسَّر من
القرآن، إلى أن أفاق المسكين بالأنين على وجع الموت، عانقني عناقًا
حارًّا، دمعَتْ له عيناي، واختنقت به أنفاسي، بادرتُه بكلمات أعزِّيه: "إن
لله - تعالى - ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر،
ولتحتسب، إنا لله وإنا إليه راجعون".
بكى بكاءً شديدًا، لا تسخُّطَ فيه، وما هي إلا الدموعُ التي يغلي بها
قِدْرُ الفؤادِ المتصدِّعِ من موت أخته، والمنفطرِ من ألَمِ الفراق، هدأ
روعه وبكاؤه، فاستودعتُه اللهَ وانصرفت إلى حال سبيلي، أردِّد قول الشاعر:
إِنِّي مُعَزِّيكَ لاَ أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الحَيَاةِ وَلَكِنْ سُنَّةُ الدِّينِ فَلاَ المُعَزَّى بِبَاقٍ بَعْدَ مَيِّتِهِ وَلاَ المُعَزِّي وَلَوْ عَاشَا إِلَى حِينِ |
انصرفتُ والدموعُ تنهمر على خدِّي؛ حسرةً وألمًا على ما وصلتْ إليه وضعيةُ
الملتزم الملتحي في مجتمعاتنا، والنظرة السيئة التي يتوجَّه بها الناس
إليه؛ يتصيَّدون عَثَراتِه، ويتتبَّعون عَوْراتِه، ويجمعون سقطاتِه،
ينظرون إليه وكأنه نبي مرسَل، أو مَلَك منزل.
فلا غرابة أن تجد بعض الملتزمين يخصُّونك بالسلام من دون المارة - برغم
كونهم مسلمين - ولا أرى لها من تأويل، إلا الغربة التي يعاني منها
المسكين، وكأنك - أخي القارئ - تسمع كلامًا يقول لك: "أيها الملتزم، لن
تصبح مواطنًا صالحًا، حتى يترضى عليك الإعلامُ الفاجر، و يلقى منظرُك
القَبولَ لديهم".
هذه حالة واحدة من حالات كثيرة لا يحصيها العدُّ، يعيش فيها الملتزم غربةً بين أهله وذويه؛ فأين المفرُّ، وممن المهرب؟!
.
سلافة- عدد المساهمات : 71
النقاط : 52839
التقييم : 5
تاريخ التسجيل : 2010-07-08
Similar topics
» مجموعة قصص قصيرة
» يوم عرسي (قصة قصيرة)
» الرجل ذو الندبة - قصة قصيرة مترجمة
» قصة مترجمة ... قصيرة و رائعه " الدفاع الأخير "
» Short Romantic Love Stories قصص حب قصيرة انجليزية
» يوم عرسي (قصة قصيرة)
» الرجل ذو الندبة - قصة قصيرة مترجمة
» قصة مترجمة ... قصيرة و رائعه " الدفاع الأخير "
» Short Romantic Love Stories قصص حب قصيرة انجليزية
علومي :: القسم الأدبي :: اشعار ونثريات
Page 1 of 1
Permissions in this forum:
You cannot reply to topics in this forum